تمهيد :
الملامتية فرقة من فرق الصوفية , طلبت الإخلاص فأخطأت طريقه , فزعمت أن من حقيقة الإخلاص ترك عمل الخير أمام الناس ولا يضمر في نفسه شرا , ومنهم من زاد على ذلك باقتحام المعاصي , من أجل أن يسقط من أعين الناس فلا يطلب الجاه , ويأنس بالخمول , وتفارقه لذة القبول .
وكلام السهروردي في الملامتية قائم على أمرين ينبغي التنبيه عليهما :
1- مفهوم الإخلاص .
2- طلب الثواب .
الأمر الأول / مفهوم الإخلاص :
عرف السهروردي الملامتي بأنه " الذي لا يظهر خيرا ولا يضمر شرا " ,فالإخلاص عندهم , قائم على أمرين :
1- عدم إظهار الخير .
2- عدم إضمار الشر .
ويتضح غلطهم بتحديد مفهوم الإخلاص الصحيح , وهل هو مشروط بعدم إظهار الخير وعدم إضمار الشر , أم لا ؟
الإخلاص أمره عظيم جدا , بل هو أحد ركني قبول الأعمال , وقد تضافرت أدلة الكتاب والسنة في الحث عليه والأمر به , قال تعالى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) [الروم : 30 ، 31], وقال تعالى : إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر : 2 ، 3] , وقال تعالى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) [البينة : 5].
وقال النبي :« قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِى غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ».
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا , والذي يتأمل في الآيات والأحاديث يجد مفهوم الإخلاص واضح جدا , وهو إخلاص العمل من الشرك الجلي والخفي , سواء كان أكبرا أم أصغرا . قال شيخ الإسلام في معرض ذكره لبعض الصوفية : "وكذلك في أمر الإخلاص لله تجد فيهم من الشرك الخفي أو الجلى أمورا كثيرة " .
فإذا كان هذا هو مفهوم الإخلاص فالإخلال به هو المحذور شرعا , فمتى خلا العمل من الشرك الجلي والخفي فهو واقع في دائرة الإخلاص .
وإذا علم أن الإخلاص أمر قلبي , فالمعتبر في كون العمل خالصا من عدمه ليس هو إظهاره أو إخفاؤه ؛ بل المعتبر ما في القلب .
وبذا يعلم خطأ الملامتية الذين جعلوا الأمر المعتبر في الإخلاص هو إخفاء الأعمال , بغض النظر عما في القلوب .
والشريعة جاءت بالأعمال الظاهرة للعيان , وحثت عليها , وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة , كالصلوات الخمس , والجمع , والأعياد , والحج , والعمرة , وغير ذلك من الأعمال الظاهرة .
أما الحديث الذي استدلوا به على أن الإخلاص سر استودعه الله قلب من شاء من عباده , فهذا حديث ضعيف , ضعفه غير واحد من أهل العلم , كما أنه مناقض لما صح من الآيات والأحاديث الصحيحة المحددة لمفهوم الإخلاص , إذ كيف يعقل أن أحد ركني قبول الأعمال سر لا يعرفه أحد ؟!!.
وقد نص غير واحد من الأئمة على أن ترك العمل من أجل الناس شرك ’ كما أن العمل من أجلهم رياء .
الأمر الثاني / طلب الثواب :
إن مفهوم الإخلاص – كما مر آنفا – لا يناقض أن ينشد العامل من وراء عمله الثواب الذي جعله الله مترتبا على القيام ببعض الأعمال .
ومما يدل على ذلك كثرة الأعمال الشرعية التي ارتبط بها ثواب معين , مثل الحج , والعمرة , والجهاد , وصلة الأرحام , وحضور الجمع والجماعات ووو....وغيرها الكثير مما ربط الشارع الأجر المعين على فعله . فمن غير المعقول أن تتكاثر هذه الأعمال بهذه الصفة , ويكون طلب الثواب المترتب على عملها غير جائز , إذن لماذا وضع هذا الثواب ؟ ولماذا كان النبي لا يحصى عنه وهو يقول لأصحابه من يعمل كذا وله كذا .
يقول الإمام القرافي :" اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ فِي الْعِبَادَاتِ شِرْكٌ وَتَشْرِيكٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَالْإِثْمِ وَالْبُطْلَانِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْمُحَاسِبِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُعَضِّدُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ لَهُ أَوْ تَرَكْتُهُ لِشَرِيكِي } فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِهِ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ لَا يُجْزَى عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَسِرُّهَا وَضَابِطُهَا أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَالْمُتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يُعَظِّمَهُ النَّاسُ أَوْ يُعَظَّمَ فِي قُلُوبِهِمْ فَيَصِلَ إلَيْهِ نَفْعُهُمْ أَوْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ ضَرَرُهُمْ فَهَذَا هُوَ قَاعِدَةُ أَحَدِ قِسْمَيْ الرِّيَاءِ وَالْقِسْمُ الْآخَرُ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ لَا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ بَلْ النَّاسَ فَقَطْ وَيُسَمَّى هَذَا الْقِسْمُ رِيَاءَ الْإِخْلَاصِ وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ رِيَاءَ الشِّرْكِ لِأَنَّ هَذَا لَا تَشْرِيَك فِيهِ بَلْ خَالِصٌ لِلْخَلْقِ وَالْأَوَّلُ لِلْخَلْقِ وَلِلَّهِ تَعَالَى وَأَغْرَاضُ الرِّيَاءِ ثَلَاثَةٌ التَّعْظِيمُ وَجَلْبُ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَخِيرَانِ يَتَفَرَّعَانِ عَنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا عَظُمَ انْجَلَبَتْ إلَيْهِ الْمَصَالِحُ وَانْدَفَعَتْ عَنْهُ الْمَفَاسِدُ فَهُوَ الْغَرَضُ الْكُلِّيُّ فِي الْحَقِيقَةِ فَهَذِهِ قَاعِدَةُ الرِّيَاءِ الْمُبْطِلَةُ لِلْأَعْمَالِ الْمُحَرَّمَةُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا مُطْلَقُ التَّشْرِيكِ كَمَنْ جَاهَدَ لِيُحَصِّلَ طَاعَةَ اللَّهِ بِالْجِهَادِ وَلِيُحَصِّلَ الْمَالَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَفَرْقٌ بَيْنَ جِهَادِهِ لِيَقُولَ النَّاسُ إنَّهُ شُجَاعٌ أَوْ لِيُعَظِّمَهُ الْإِمَامُ فَيُكْثِرَ إعْطَاءَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ رِيَاءٌ حَرَامٌ وَبَيْنَ أَنْ يُجَاهِدَ لِيُحَصِّلَ السَّبَايَا وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ مِنْ جِهَةِ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَشْرَكَ وَلَا يُقَالُ لِهَذَا رِيَاءٌ بِسَبَبِ أَنَّ الرِّيَاءَ لِيَعْمَلَ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ خَلْقِهِ وَالرُّؤْيَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخَلْقِ فَمَنْ لَا يَرَى وَلَا يُبْصِرُ لَا يُقَالُ فِي الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ رِيَاءٌ وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ فِي الْغَنِيمَةِ وَنَحْوُهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ يَرَى أَوْ يُبْصِرُ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَفْظُ الرِّيَاءِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِيهَا وَكَذَلِكَ مَنْ حَجَّ وَشَرَّك فِي حَجِّهِ غَرَضَ الْمَتْجَرِ بِأَنْ يَكُونَ جُلُّ مَقْصُودِهِ أَوْ كُلُّهُ السَّفَرَ لِلتِّجَارَةِ خَاصَّةً وَيَكُونَ الْحَجُّ إمَّا مَقْصُودًا مَعَ ذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَيَقَعُ تَابِعًا اتِّفَاقًا فَهَذَا أَيْضًا لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَجِّ وَلَا يُوجِبُ إثْمًا وَلَا مَعْصِيَةً وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ لِيَصِحَّ جَسَدُهُ أَوْ لِيَحْصُلَ لَهُ زَوَالُ مَرَضٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الَّتِي يُنَافِيهَا الصِّيَامُ وَيَكُونُ التَّدَاوِي هُوَ مَقْصُودُهُ أَوْ بَعْضُ مَقْصُودِهِ وَالصَّوْمُ مَقْصُودُهُ مَعَ ذَلِكَ وَأَوْقَعَ الصَّوْمَ مَعَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ لَا تَقْدَحُ هَذِهِ الْمَقَاصِدُ فِي صَوْمِهِ بَلْ أَمَرَ بِهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } أَيْ قَاطِعٌ فَأَمَرَ بِالصَّوْمِ لِهَذَا الْغَرَضِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعِبَادَاتِ وَمَا مَعَهَا وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجَدِّدَ وُضُوءَهُ وَيَنْوِيَ التَّبَرُّدَ أَوْ التَّنْظِيفَ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِيهَا تَعْظِيمُ الْخَلْقِ بَلْ هِيَ تَشْرِيك أُمُورٍ مِنْ الْمَصَالِحِ لَيْسَ لَهَا إدْرَاكٌ وَلَا تَصْلُحُ لِلْإِدْرَاكِ وَلَا لِلتَّعْظِيمِ فَلَا تَقْدَحُ فِي الْعِبَادَاتِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْرِيكِ فِي الْعِبَادَاتِ غَرَضًا آخَرَ غَيْرَ الْخَلْقِ مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ تَشْرِيكٌ نَعَمْ لَا يَمْنَعُ أَنَّ هَذِهِ الْأَغْرَاضَ الْمُخَالِطَةَ لِلْعِبَادَةِ قَدْ تُنْقِصُ الْأَجْرَ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا تَجَرَّدَتْ عَنْهَا زَادَ الْأَجْرُ وَعَظُمَ الثَّوَابُ أَمَّا الْإِثْمُ وَالْبُطْلَانُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَمِنْ جِهَتِهِ حَصَلَ الْفَرْقُ لَا مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَقِلَّتِهِ " .
وهذا الكلام من الإمام القرافي يوضح فيه أن تشريك الأمور الدنيوية مع العبادات لا يعتبر قادحا في الإخلاص , وإن كان بعض أهل العلم يراه منقصا للأجر . ولكن هذا في الأمور الدنيوية , فكيف بالأمور الشرعية التي جعلها الشارع مرتبطة ببعض الأعمال , فمراعاتها لا تقدح من باب أولى .
والله أعلم ..